نحو الإنفراد بأمريكا .. أسامه يهادن أوروبا
” الساخر كوم ”
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {19} الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ {20}التوبة
لو كان شارل ديغول حياً لوقف ثم رفع قبعته احتراماً لصورة رجل أسمر أشيب طويل اللحية كانت قناة الجزيرة تبث له خطاباً صوتياً . ديغول أولاً لأنه سياسي عتيق في زمنٍ احترف فيه السياسة سماسرة الشركات وتجار السلاح وعرابوا المافيا . وديغول ثانياً لأنه رجلٌ منصف فهو القائل:” تسعون في المائة من السياسة في رأس السلطان عبدالحميد وخمسة في المائة في رأسي ووزعوا بقية المائة على بقية الرؤوس” ، في الوقت الذي اعتلى السلطة كل كاذب ومتآمرٍ وعميل.
وعندما يصدر الكلام عن مثل هذه الشخصيات فإنه يكون كلاماً له ما بعده فكيف به إذا كان المتحدث هو الشيخ أسامه بن لادن حفظه الله وهو من يصنفه حتى أعدائه مع ذلك النوع من الرجال الذي تصدّق أفعاله أقواله .
هنا وفي محاولة لقراءةٍ مختلفةٍ لخطاب شيخ المجاهدين فإن من المفيد أن نلقي بعض الضوء على أمورٍ هامةٍ لا بد من التطرق إليها نحو قراءة صحيحة لفهم الترابط المنطقي في خطوة الشيخ في إطار السياق -الذي نزعم فهمه- الذي يسلكه تنظيم القاعدة في تحقيق هدفه الضخم.
يرتكز مشروع القاعدة للتغيير إلى عدة مراحل متتابعة توطيء كل منها لما بعدها وتترابط مع بعض في حلقات متصلة . هذه المراحل الأساسية نلاحظ أن الشيخ أسامه بن لادن شخصياً هو من يعلن عن تدشين كل مرحلة وقد لاحظنا حتى الآن تدشين ثلاث مراحل أساسية هي قيام التنظيم وجر أمريكا إلى أرض المعركة والآن المرحلة الثالثة وهي تقطيع أجنحة أمريكا( الحلفاء) والإنفراد بها .
أولاً : قيام التنظيم ( لمحة مختصرة):
في نهاية الثمانينات في أفغانستان اجتمعت مجموعة من كبار المجاهدين الذين صقلتهم سنين الجهاد وعرفوا من أمور السياسة ما كانوا يجهلون واطلعوا- بحكم احتكاكهم بعدد من السياسيين المهمين في تلك المرحلة – على ما يدار خلف الكواليس وأدركوا حقيقة الصراع وحقيقة المتصارعين ، ونظرت تلك المجموعة إلى الأمة فوجدتها تتخبط في مستنقع تعاون على وضعها فيه المستعمر والحاكم فمزقها شيعاً وقطعها إلى دويلات تناصب بعضها العداء وتحيك لبعضها المؤامرات . وكان الإتحاد السوفييتي القطب الثاني في العالم يصارع الفناء في تلك السنوات بعد أن تخطفته سواعد المجاهدين فخلت الساحة لأمريكا وانفردت بقرارات العالم فكان أن أتى بوش الأب بعد حرب الخليج الثانية بما أسماه النظام الدولي الجديد. وما هو إلا استعمار غير أنه في نسخة جديدة ومن ذا يستطيع أن يقول لأمريكا .. لا !!.
المراقب لوضع الأمة في ذلك الوقت يلاحظ خلو ساحتها من أي زعيم مؤثر يستطيع أن يجمع الأمة على رأي واحد أو أن يكون له تأثير على المطبخ السياسي في واشنطن . بل كان حالهم كما قال الشاعر :
ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ … ولا يستأمرون وهم شهود
فقيادات الأمة تسنّمتها شرذمة من الخونة والعبيد والضعفاء . جل ما يطمح له كل واحد منهم أن يظل على كرسيه وأما الأمة وكرامتها وعزتها فإلى حيث ألقت رحلها أم قشعمُ!.
إذاً فالتغيير سوف يمس مصائر دولٍ ومصالح شعوب ، وليست أي دولٍ .. وليست أي شعوب!! بل هي دول النخبة وشعوب الصفوة إن صح التعبير . وتغيير كهذا لا يفكر فيه إلا أصحاب رسالة تمثل لهم أهمية عظمى تتضاءل أمامها مخاطر التعرض لمستقبل شعوبٍ لا يحتل لديها الآخر منزلةَ أعلى من الكلاب الضالة . ولن ينجح هذا التغيير إلا بامتلاك أدواته ورسم استراتيجيته بعيدة المدى وتخطيط مراحل تنفيذه مع الأخذ في الحسبان كل ما قد يطرأ من ردود الفعل العنيفه. شيء آخر مهم .. يجب أن لا يتوقع صاحب هذا المشروع أي مساعدة من أي طرف بل يجب أن لا يستبعد نشوء عداوات جديدة فهو سيُحدث استقطاباً صاعقاً في العالم وحتى الذين لا يحظون الآن بشهد النظام العالمي الجديد يعلمون أنهم سيتجرعون علقم التغيير القادم بعباءة الجهاد.
ولأن أمريكا هي قطب هذا النظام وعرّابه وحامي حماه وواضع أسسه والمستفيد الأكبر منه والحاصد الحقيقي لثماره فقد كان من البديهي أن تبوء بإثم ما جنته يداها الطويلتان. كما أن تاريخها المجلل بالسواد في اغتصاب حقوق المسلمين عبر تنصيب أزلامها على رقاب العباد تارة بالمدرعات وتارة بالمؤامرات مقتفية نهج سابقتها سيئة الذكر بريطانيا العظمى!! مع كونها يد إسرائيل الباطشة وحبل اقتصاد اليهود المتين وركن الصهاينة الركين ، كل ذلك كان ينبّه كل عين تحمل هم الأمة كلما رام المخذّلون لها رقوداً.
كان المجاهدون يمتلكون أهم أدوات ذلك التغيير وهي العقيدة والرجال والتمويل ، لكن هذه العناصر التي تمثل العمود الفقري لأي مشروع تفتقر إلى عنصر لا يقل أهمية عنها وهو الأرض.
فالبلاد العربية بلا استثناء تقع تحت العين الأمريكية عبر موظفيها المخلصين هناك . وهؤلاء المجاهيل الذي نصبّتهم أمريكا على عصب الإسلام فرّغوا الجيوش لحمايتهم من الشعوب وتركوا إسرائيل أكثر من نصف قرن تعيث في أرض الأقصى فساداً وهم لا ينطقون. مجموعة من العبيد أحالوا آمال الشعوب إلى كوابيس مستمرة وأورثوهم إحباطاً واكتئاباً ولوناً أسود يرون به مستقبلهم بعيون دامعة ..
سوف أبكي ولن يغير دمعي… أي شيء من وضع غيري ووضعي
هكذا كانت حال الشعوب المقهورة التي لا تجد سبيلاً للتعبير عن ما يجيش في صدورها الملتهبة بنيران الغضب والمكبلة بقيود القهر والإستعباد . خيّمت على الشعوب طباع العبودية واستمرأت حياة الذل برغم معرفتها بأن العدو الحقيقي هو من يقف بينهم وبين نور العزة وشمس الكرامة حتى أن هناك من أصيب بفوبيا الحرية وأصبح لا يعلم ماذا سيفعل إن عاد حراً وكريماً ، ولا نزال نرى كل يومٍ من يظن أن زوال بعض هؤلاء الحكام أو كلهم قد يكون سبباً لقيام الساعة وظهور الدابة !! وكأن الأمور ستصبح أسوأ مما هي عليه الآن فالمسلمين يقتلون في كل مكان والأعراض تنتهك والثروات تنتهب والحقوق تغتصب
وليس عدانا وراء الحـدود … ولكن عدانا وراء الضلوع
وأين وصلنا؟..هنا لم نـزل … نبيع المُحيا ونشري الهجوع
فلم يبق فينا لمـاضٍ هوىٍ … ولم يبق فينا لآتٍ نــزوع
هذا الوضع كان كفيلاً بسحق أمال كل من يتوق إلى التغيير فأمريكا مسيطرة عن طريق حكامها والشعوب مترددة بين إغراءات العلمانيين بالإنسياق في ركب الدين الأمريكي الجديد أو الإنزواء في التكايا وزوايا المساجد مع الصوفية والمرجئة ومن لف لفهم حتى يقوم المهدي فيجاهد!!.
وليتهم فعلوا مع الحكام ما فعل النصارى مع قيصر عندما فصل الكنيسة عن الحكم فقالوا :” مالله لله .. وما لقيصر لقيصر” ولكنهم قالوا :” مالقيصر لقيصر .. وما لله ….. لقيصر أيضاً ” فهو أعلم أين يضع مال الله !!!. فكان حالهم بين أمريكا وحلفائها وبين الحكام العرب كقول القائل:
وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ … فعلى أي جانبيك تميلُ
لكن العجيب أن هذا الوضع المحبط كان المستفز الأكبر لحاملي مشاعل النور للأمه ، الذين عركوا المعارك وعركتهم حتى علموا أن الحياة الدنيا أقل من أن تباع لأجلها الآخرة ، وأن الجنة أغلى من أن توهب لذليل!! كما أدركوا أن العزة لا تجتمع مع الكفر فهي لله ولرسوله وللمؤمنين ، فمن تبع كافراً أو والى كافراً أو نصر كافراً فلن يرضى منه الكافر إلا بالذل .. أفلا نرى ذلك كل يوم رأي العين!!
وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ {120} البقرة
لذلك كانت أرض الرباط “أفغانستان” هي الحضن الأول لهذا الوليد وهي كانت قد شهدت بناء البنية التحتية للتنظيم في أيام الجهاد قبل حتى أن تتشكل الفكرة في رؤوس الرجال. فالمعسكرات كانت جاهزة ومصادر التمويل موجودة أما الأسلحة فكانت في تلك الفترة قد أصبح الحصول عليها شيئاً مفروغاً منه . أمران مهمان ساعدا القاعدة على النشوء بسرعة وقوة كبيرتين ، الأول هو العقول المخلصة فقد مثلت القاعدة مركز جذب للعديد من الموهوبين والمؤهلين فكرياً وعسكرياً الذين رأوا فيها المخلّص المأمول للأمة من ربقة الإستعباد ورأوا في قادتها من عرفوا في الإخلاص وصدق النية والزهد في الدنيا . العنصر الثاني كان السرية المطلقة التي أحيط بها التنظيم الناشيء ، يقول جورج تينيت مدير الوكالة المركزية للإستخبارات الأمريكية في حديث للأسوشييتد برس قبل أيام:”نحن نعلم الآن أن القاعدة أسست عام 1988م إلا أننا لم نعرف ذلك إلا عام 1999 م” أحد عشر عاماً من العمل السري أي عقيدة هذه وأي هدف وأي رجال!!.
هذه المرحلة “مرحلة التأسيس” انتهت في منتصف التسعينات تقريباً عندما أعلن الشيخ شخصياً عن قيام “الجبهة العالمية لمحاربة اليهود والنصارى” وظن الجميع أنها مثل غيرها من تلك التنظيمات التي لا يتجاوز جهادها حدود الورقة والمايكروفون.
ثانياً : جرّ أمريكا إلى أرض المعركة :
تمثل أمريكا قوة عسكرية واقتصادية ومعلوماتية عظمى إن لم تكن الأعظم في الحقول الثلاثة وفي تلك الفترة ” منتصف التسعينات” كانت أمريكا مشغولة بإضعاف أقرب منافسيها وهم من يبعدون عنها بأجيال (الصين وروسيا وأوروبا القديمة) لكي تتمكن من السيطرة كليا على العالم . ولذلك فقد كان من المستحيل أن يخطر على بالها أن تكون هدفاً لأحد . كما أنه كان من المستحيل دخول معركة مباشرة مع أمريكا ولذلك اعتمدت القاعدة خطة من أربع محطات متتابعة لإنجاز هذه المرحلة ، وكان من الضروري إنجاز كل محطة بإتقان حتى تستطيع تصعيد حدة الضربة في المحطة التالية :
أ- استهداف الصورة الإعلامية :
تمثل الصورة الإعلامية عنصراً فعالاً في تشكيل مفهوم معنوي عند الآخر ، وقد فهم الغرب ذلك مبكراً . أما أمريكا فقد استطاعت أن تصور للناس من خلال عملاق السينما هوليوود أن الجندي الأمريكي جندي خارق ذكي قوي مخلص وغير قابل للهزيمة. وترسخت تلك المفاهيم للأسف في العقول العربية حتى أصبح الكثيرون ينظرون إلى كل ما هو أمريكي على أنه شيء لا يمكن الوصول إليه بل إنه أصبح مضرب المثل . ونلاحظ أنهم في نهاية القرن الماضي لم يعودوا يصوروا العدو على أنه من روسيا أو من الشرق الأقصى بل تجاوزا ذلك فكان العدو يصور على أنه قادم من مجرات أخرى كما في فيلم “يوم الإستقلال” وهو يحمل تقنية أحدث مما وصل إليه ” الأميركان” ولكن الجندي الأميركي “الخارق” يستطيع أن ينقذ الأرض كلها وليس أميركا فقط فهو قد أصبح مسئولاً عن الأمن العالمي !!.
كان نسف سكن الأمريكان في “الخبر” و”الرياض” أول بواكير الحشد النفسي للتنظيم لكن أول عمل من إنتاج التنظيم كان في كينيا وتنزانيا إذ نسفت السفارتان اللتان كانتا تمثلان وكر التجسس الرئيسي في أفريقيا بعد مقابلة مع الشيخ أسامه بن لادن بثتها شبكة ABC ظهر فيها الشيخ وفوق كتفه الأيمن بالظبط كانت تظهر كينيا على الخريطة الجدارية . صعقت أمريكا ففي الوقت الذي تحضر فيه للسيطرة على العالم لا تستطيع أن تحمي أبناءها !! لم تكد أمريكا تفق من الصفعة حتى شق زورق صغير هدوء مياه خليج عدن في ليل صافٍ حاملاً على ظهره ما يكفي من المتفجرات لإرسال الجنود الأميركيين “الخارقين” على ظهر المدمِّـرة كول إلى جهنم وناقلاً الكسرة من تحت الميم إلى فوقها . الآن أدرك العالم أن هناك من يستطيع قتل أميركي وتدمير المدمرة !! والآن عرف الأميركيون أن هناك من يفتش في الدفاتر القديمة وينوي سداد كل الفواتير.
كانت هذه العمليات مهمة لأعضاء التنظيم بالذات فأغلبهم كان من الشباب الذين أثرت عليهم تلك الحملة الإعلامية التي غذتها حالة الضعف المخجلة التي كانت تعاني منها الأمة ، فكان لا بد منها للتوطئة لما هو آتٍ بكسر كل الحواجز النفسية التي جعلت مجرد التفكير في قتال أميركا أمراً يدعو للشك في قدرات المتحدث العقلية .
ب – الاستنزاف الإقتصادي:
يحلو لأميركا أن تعيش مثل العاهرة التي تجد دائماً من يدفع فاتورتها من العشاق السذج. فحربها مع الروس في الخليج مولها الخليجيون وحربها مع الصين مولها اليابانيون بل إن عملياتها الإستخباراتية الداعمة لثوار الكونترا اعترف رئيس الاستخبارات السعودي السابق بأن دولته هي من مولها !! .
لذلك كان لا بد من ضربة مانهاتن المباركة التي يتصور الكثيرون أنها معركة في حد ذاتها ولكنها في الحقيقة ليست إلا جزءاً من مرحلة من مراحل الحرب . وضربة مانهاتن أظهرت عبقرية التخطيط ودقة التنفيذ وحقيقة الإتكال على الله سبحانه وتعالى ، وهي أصابت الإقتصاد الأميركي في مقتل لا يزال ينزف منه وكان يجب أن يدخل الفرعون هذه الحرب وهو ينزف اقتصادياً إذ أن ذلك سيساعد كثيراً على القضاء عليه . وقد فصلت في الحديث عن هذه الضربة في مقال:” صباح القاعدة وغروبهم”.
ج_ الإبتزاز الأمني :
في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تدق طبول الحرب وفي أوج خطابات الحماسة التي كان يلقيها بوش معلناً قيام الحرب الصليبية الجديدة وفي اللحظات الأكثر رعباً لحكام العالم وبينما كان يتوقع بعض المشفقين على المستضعفين في أفغانستان أن يظهر متحدثٌ باسم القاعدة ينفي ضلوعها في ضربة مانهاتن.. تقطع قناة الجزيرة برامجها لتعلن عن خبر عاجل … ظهر الشيخ الوقور وحوله مجلس أركانه يلبس بدلة عسكرية مموهة ويعصب رأسه بعصابة بيضاء مسنداً رشاشه الشهير إلى الصخرة وراءه ليرسل لأميركا قسمه الأشهر:
” أقسم بالله العظيم .. الذي رفع السماء بلا عمد .. لن تنعم أمريكا .. ولا من يعيش في أمريكا .. بالأمن .. قبل أن نعيشه واقعاً في أرض فلسطين .. وقبل .. أن تخرج الجيوش الكافرة .. من أرض محمد صلى الله عليه وسلم ”
كان العرض المتكرر للمشهد يكرس لغة الجسد التي اعتمدها الشيخ في خطابه حين كان يرفع سبابته مهدداً وحين كانت تظهر بوضوح آثار كلماته على قسمات وجهه المعبرة .. وهي لغة يعرفها الغربيون جيداً .
بعد ذلك استطاعت القاعدة استثمار التلهف الإستخباراتي على كل معلومة مهما كانت صغيرة عن القاعدة فأخذت بإرسال إشارات متعمدة في محيط التنصت الإستخباراتي بشكل منتظم ما جعل مؤشر مستوى الإنذار من وقوع عمل إرهابي وشيك أشبه بمؤشر تخطيط القلب الذي ما أن يهبط حتى يرتفع بسرعة . هذا الأمر جعل حياة رجال الأمن هناك قطعة من الجحيم الحقيقي كما أضاف عبئاً جديداً على الميزانية في أسوأ توقيت ممكن . أما بالنسبة للشعب فلك أن تتخيل تأثير ذلك على شعب عاش ما يزيد عن خمسين عاماً لا يعتقد أن هناك أحدٌ غير الله بإمكانه أن يؤثر على حياته ثم هو كل يوم يظهر له على شاشة التلفاز رجل يقول :” ربما تموتون اليوم جميعاً”!!
د – سحب الجيش الأمريكي خارج الأراضي الأمريكية:
عندما انتهت هذه المحطة كان بوش على الموعد تماماً ونقل الجنود إلى أفغانستان ثم إلى العراق مقدماً خدمة العمر للقاعدة فبدلاً من أن تذهب القاعدة لمحاربة أمريكا .. جاءت أمريكا إلى القاعدة على أرضها وبين جمهورها !! القاعدة كانت تعلم أن الموضوع لا يزال في بدايته بينما ظن بوش ومن ورائه بأنها كانت النهاية ولذلك بدأ الإحباط يدب سريعاً في أوساط الأمريكان بينما كانت القاعدة تخطط لما بعد هذه المرحلة . الآن وبعد مرور ثلاث سنوات على ضربة مانهاتن نجد أن القاعدة موجودة بل فتحت لها فروع في جزيرة العرب وأوروبا إضافة لفرع اميركا ، كما أن ضرباتها قد أصبحت مركزة أكثر و مدعومة بفكر استراتيجي يقرأ الأحداث ببراعة ويؤثر فيها بشكل كبير كما حدث في مدريد . بينما يقرأ الجميع بكل وضوح آيات الهزيمة واضحة على المحيا الأمريكي في أفغانستان والعراق .
ثالثاً: الإنفراد بأمريكا وقص أجنحة التحالف ضد الإرهاب:
بعد مرور عامٍ على غزو العراق وعامين على غزو أفغانستان أصبح الوقت مناسباً لتدشين المرحلة الثالثة من الحرب . أميركا جرت العالم كله في رسن خلفها ليقاتل من أجل قضيتها ، كثيرون فهموا القضية وعلموا أن أصل الحرب هو الوجود الإستعماري في البلاد الإسلامية لكن من كان يجرؤ على أن يقول ذلك لأمريكا فهو تلقائيا سوف يصنف في قائمة الإرهابيين . لكن ما حدث في مدريد نبه العالم إلى أن بإمكان القاعدة أن تنفرد بهم واحداً تلو الآخر وأن عصاها الغليظة لن تكون أقصر من أن تنال من رؤوسهم . كانت عملية الأندلس شيئاً يشبه القرصة لكل شعوب أوروبا لتفهم أن الحرب ليست معها إنما مع الفرعون الجديد . بالطبع سوف يكون من الصعب على الساسة أن يعترفوا بذلك ولكن الضغط الشعبي لن يقبل أن يضحى بأبنائه من اجل تحسين صورة سياسي أو تحقيق مكاسب لآخر .
هنا جاء الشيخ أسامه بن لادن حفظه الله شخصياً ليدشن المرحلة الجديدة من الحرب وبطريقة إبداعية لا تختلف عن المنهج القاعدي الخلاّق. الخطاب بشكل عام كان مكتوباً بلغة وسطى أقرب إلى اللين كما أن الشيخ لم يكثر فيه من الآيات والأحاديث لكي لا توضع موانع نفسية بين الخطاب والجمهور المستهدف . لكنه كان أشبه بمرافعة لتوضيح الأمور حتى لا يصبح لأحد حجة أن يقول ربما لم يعرفوا سبب هذه الحرب أو أنهم ربما كانوا مضللين . شيء مهم احتوى عليه الخطاب هو مخاطبة الشعوب بمعزل عن القادة فهو يعرف أن القادة واقعون تحت تأثير القوى المهيمنة على صناعة القرار وهي التي تكبلهم وتسير خطاهم ، فكان الخطاب أشبه بدق إسفين بين الشعوب والحكام ليزيد الهوة التي صنعتها حرب الإرهاب ثم وسعتها حرب العراق وجاءت ثالثة الأثافي ضربة الأندلس لتجهز المسرح لخطاب الشيخ.
أهم ما في الخطاب أنه أوضح أن القاعدة تحمل للعالم مشروعاً سياسياً واضحاً ولا تقاتل لشهوة القتال. وبرغم أن ذلك كان واضحاً على الأقل للمؤيدين للقاعدة إلا أن هناك من لا يزال يقبع في ظلاميته التي اصطنعها لنفسه ولا يريد الخروج منها حتى بعد ظهور الخطاب . كما أنه ولأول مرة منذ زمن بعيد حمل صوتاً قوياً يتبنى قضايا المسلمين ويفاوض عنها من موقع الند ، يقول الشيخ: (فمن أبى الصلح و أراد الحرب فنحن أبناؤها ، فمن أراد الصلح فها قد أجبناه : فأوقفوا سفك دمائنا لتحفظوا دمائكم وهذه المعادلة السهلة الصعبة حلها بأيديكم فأنتم تعلمون أن الأمر يتسع ويتضاعف كلما تأخرتم وعندها فلا تلومونا ولوموا أنفسكم)
هذه الكلمات يعجز أي من النعاج العشرين عن التحدث بها حتى بينه وبين نفسه فكيف به يلقيها على الملأ . هذه النبرة المغرقة في الثقة بالله أولاً ثم بالقوة التي يمتلكها توصل كثيراً من المعاني إلى الآخر . في هذا الخطاب اجتمعت السياسة والقوة والرأي والشجاعة فهي كما قيل :
الرأي قبل شجاعة الشجعان … هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفسٍ حرةٍ … بلغت من العلياء كل مكانِ
على أننا نرى أن التحالف لن يسقط بين ليلة وضحاها .. هو يتداعى نعم .. لكن هذا الخطاب سوف يجعل الأوروبيين يقفون على رؤوس أصابعهم يترقبون انتهاء مهلة الشيخ ومع انتهائها أتوقع أن يضرب التنظيم ضربته القوية في أوروبا الأمر الذي سيسبب ثورة شعبية على الساسة هناك يجعلهم ينفضون أيديهم من المعركة ويقفون على الحياد وربما خرج عليهم الشيخ بخطاب آخر ينذرهم من عقبى التمادى وإلا فإن الضربة الثانية سوف تنفذ لتكتمل المرحلة الثالثة من الحرب وتنفرد القاعدة بأمريكا ثم تكون المعركة الكبرى .
Archived By: Crazy SEO .
تعليقات
إرسال تعليق