صباح .. القاعدة .. وغروبهم!!

” الساخر كوم ”

بـسم اللـه الرحمـن الرحيـم

” كان صباحاً جميلاً .. وصافياً” هكذا وصف أحد كبار المصرفيين الذين كان لهم “ذل” التواجد في البرج الجنوبي لمركز التجارة العالمي صباح الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر 2001 . لقد كان صباحاً جميلاً .. ولازال .. ولا يجدر بهكذا صباحٍ تشرق معه شمس عهدٍ جديدٍ إلا أن يكون جميلاً ..وصافياً.

في ذلك الصباح الخالد كان التاريخ على موعدٍ مع منعطفٍ جديدٍ يغير مساره إلى الأبد، منعطفً لا يتكرر كثيراً . يعلمنا تاريخ الحضارات أن لكل حقبة محددة من التاريخ مسار واضح ومحدد يسير فيه وفق محددات اقتصادية وعسكرية واجتماعية تضعها الأمم القاهرة وتتحكم في مدى قوة وضعف هذه المحددات مما يؤثر على التركيبة الثقافية للأمم المقهورة التي تعيش في تلك الحقبة .يسير هذا السيل من الوقت هادراُ يجرف في طريقه كل من يحاول الوقوف في وجهه أو حتى تغيير مساره. مجموعة محددة من الناس استطاعت تغيير مسار التاريخ لمرات قليلة في تاريخ البشرية ، هؤلاء القلة استطاعوا ذلك لامتلاكهم أدوات التغيير الضروريةوأهمها اقتناعهم بأنهم يستطيعون التغيير أي أنهم لم ينهزموا نفسياً وثقافياً أمام الأمة القاهرة. أداة مهمة أخرى وهي الإعداد للتغير وهذا يستلزم وقتاً لتغيير تركيبة الأمة والاعتماد على شريحة لم تنشأ على الإعجاب بالعدو والشعور باستحالة هزيمته .ثم هناك نوعية الأهداف التي ستتلقى الضربات والتي يجب أن تختار بعناية لكي تحقق أفضل النتائج بأقل الخسائر فالحرب طويلة واستنزافية. اختيار الوقت المناسب والمكان المؤهل أمران في غاية الأهمية إذا أن اختيار اللحظة المناسبة كان غالباً هو الخيط الفارق بين النجاح والفشل.

في ذلك الصباح الجميل الصافي .. كانت أميركا تعيش زهوة عظمتها وفورة سلطتها ..وهذه كانت أولى البشائر بأن الوقت الذي اختير كان مناسباً ..
“إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ” .
رئيسها قالها صريحة كصباح ذلك اليوم بأنه لن يتدخل في الشأن الفلسطيني والإسرائيليون سوف يعاملون الفلسطينين بما هم أهلٌ له .. أما أنا فلي ثأري في العراق .. لقد غزا دولة ضعيفة وهدد دولة أضعف .. وحاول قتل أبي !! .. منطق الشوارع والحارات المظلمة.

على الطرف الآخر من المتراجحة تنادى الزعماء العرب لعقد قمة طارئة بعد أن ثارت الشعوب في الشوارع عندما رأت التراب الفلسطيني يشرب من دم أبنائه أكثر من ماء المطر ..لكن القذافي كالعادة كان ينفس عن غيظه بإعلانه لمسودة القرار قبل ليلة من الاجتماع الختامي للقمة .. في هذا القرار لم نسمع تهديداً ولو من طرف خفي لأي احد .. كان الشجب والاستنكار حاضراً كعادة كل اللقاءات العربية في سطرين .. أما بقية الإجتماع فكان لمناقشة الفعاليات الثقافية والسبل المناسبة لتخفيض الجمارك على الحليب وحفاظات الأطفال!! قمة طارئة لمناقشة مشاكل الأطفال مع الإسهال وكيفية الحفاظ على استقرار أسعار الحليب و اقتصاد البقر!!!

هكذا كانت الأجواء في العالمين الأول … والتاسع عشر .. روح التبعية والعمالة التي صبغت غالبية الخمسين عاماً الماضية ظهرت فتية شابة ومستعدة للعيش لمائة عام أخرى. لم يكن يلوح في الأفق أي بادرة إعداد لتغيير الوضع القائم .. كان هناك رضىً واضح بـ”النصيب”. فالسلطات المركزية التي تسيطر على الشعوب أغنت قوى الأستعمار العالمي عن الحضور بنفسها إلى الأراضي الإسلامية ، فقد كانت عقود ” الصمت مقابل السلطة” صفقات ضمنت لكل طرف أن يبقى سعيداً .. المستعمرون يعملون في صمت ويحافظون على بقاء الزعماء على كراسيهم .. والسلطات تضمن للمستعمر مناخاً مستقراً لكي يستمر في عمله .

هذه المراكز الإدارية التي كانت تسير وفق التوجيهات القادمة من وراء البحار .. كانت تعلم تمام العلم بأن أي تغيير في بنود هذه الإتفاقية سوف يكون على حسابها وأنها ستكون أكبر المتضررين إذ أن حبل الوصل مقطوع بينها وبين شعوبها ورصيدها من الولاء يقترب كثيراً من رصيد عامة الشعب من المال .

في ظل تطبيع الانبطاح وتشريع التخاذل بحجة “فقه العجز” ، كان لا بد أن يكون هناك طليعة تأخذ زمام المبادرة وتقدم أول التضحيات لتغيير هذه الأوضاع الكارثية . هذا التغيير كان يجب أن يكون بحجم الطامة المحيطة بالأمة ولهذا كان يجب أن يكون تغييراً مؤثراً.. قوياً .. وصاعقاً .. كان يجب أن تكون ” غزوة مانهاتن”.

لكي نفهم عبقرية هذه الضربة يجب أن نفهم أولاً أبعاد القوة الأمريكية الأسطورية . فقد قضى الروس أكثر من أربعين عاماً وهم يحاولون جر أميركا إلى حرب عسكرية فانتهى الأمر إلى تفكك امبراطوريتهم الإشتراكية تحت تأثير الضربات الإقتصادية الأمريكية التي نجح الأمريكيون في جر الروس إلى ميدانها عبر استدراجهم إلى جولات عسكرية بعيدة عن الأراضي الأمريكية في افغانستان والعراق لاستهلاك المجهود العسكري .. وعبر استفزازهم لتمويل حرب النجوم لانهاكهم اقتصادياً . وبنهاية الحربين في افغانستان والعراق في نهاية الثمانينات .. أصبح الدب الروسي غير قادر على لم أطرافه والحصول على خبز يومه فكان انهياراً مدوياً.

عرفت أوروبا أن الاستقطاب الاميركي سوف يقود العالم إلى عصور العبودية من جديد ، لكنها أدركت الدرس الروسي فلم تعمد إلى مواجهة عسكرية مع حليف الأمس المنتشي بنصره الكبير ، فتوجهت إلى حرب اقتصادية واعلنت عن تكتل اقتصادي تحت راية ” اليورو” مما أدخل الرعب إلى قلب الراعي الأميركي. ولأنه غير قادرٍ على مواجهة اقتصادية مع الشركات متعددة الجنسيات الأوروبية والتي تنتشر حتى في أميركا .. فقد كان الحل العسكري هو الحل الأمثل . أحمقُ آخر “ميلوسوفيتش” أُعطي ضوءاً أخضراً كان قد أُعطي لصدام ذات مؤامرة ليقوم بإشعال حرب هوجاء كانت آخر ما يحتاج إليه الوليد الجديد” اليورو” لكي يجتذب الإستثمارات إلى أوروبا .. هذه الحرب التي كان وقودها المسلمين واليورو استنفذت أهدافها بعد أن هبط سعر اليورو إلى أدني قيمة له منذ إصداره و اهتزاز ثقة المتعاملين فيه وهو بعد يحبو .. كما أن هناك مؤشراً آخر لم ينتبه إليه أكثر المتابعين أو لعلهم لم يريدوا أن يظهروه على السطح كان سبباً في التدخل الأميركي خارج مظلة مجلس الأمن .. وهو تشكل جيش جهادي إسلامي يدعمه مجاهدون من افغانستان والشيشان . وهذه كانت المستحيل الرابع عند الأميركان .. جيش جهادي في قلب أوروبا .. الجحيم بعينه!!

هكذا إذاُ .. حرب عسكرية مع الروسي القوي عسكرياً يجب تجنبها وإرهاقه إقتصادياً .. وحرب أقتصادية مع أوروبا .. تنهى عسكرياً .. هؤلاء القوم يملكون الحلول لكل المشاكل .. لماذا؟؟
ببساطة لأنهم لا يتركون شيئاً للصدفة .. يعملون بالمنطق في كل شيء ويضعون سيناريوهات لكل ما هو محتمل .. ويستبقون الجميع بنقل المعارك .. جميع المعارك .. اقتصادية أو عسكرية .. إلى خارج الأراضي الأمريكية.

الآن يمكن فهم العبقربة في غزوتي واشنطن ونيويورك، فهي كانت ضربة عسكرية لأهداف اقتصادية .. كانت ضربة للأمن الإقتصادي الأميركي ولثقة المستثمر في الأجهزة الأمنية التي ما فتئت تصور لنا العالم على أنه بيوت من زجاجٍ لا تخفى عن العين الأميركية.
ما فهمته ” القاعدة ” أن أميركا قوة اقتصادية وليست عسكرية .. القوة العسكرية موجودة لحماية الكيان الاقتصادي الذي يمثل روح أميركا أما العسكر فهم جسد لا قيمة له على الإطلاق عند غياب هذه الروح، بل إنه سوف يكون أوهى من أن يستطيع أن يحافظ على نفسه.
ولهذا كان الرد عنيفاً .. متفجراً .. لم يكن بحثاً عن مجرمين إرهابيين .. ولم يكن محاولة للكشف عن دوافع جريمة .. لقد كان شيئاً يشبه ” حلاوة الروح ” ، كان استقتالاً .. استماتةً .. مزيج من الصدمة والرعب. كانت طعنة نجلاء في المكان الأشد تأثيراً .. في اللحظة الوحيدة..الأنسب.

هنا يتضح لنا فساد الفكرة القائلة بأن ضربة سبتمبر كانت مسرحية نفذتها أميركا أو إسرائيل . أميركا لا تنفذ مسرحيات على مسارحها ولا تحب أن تخوض معاركها على أرضها .. معركة نتيجتها أكبر عجز في ميزانية الدولة منذ إنشائها .. ومعدل بطالة يوميء للرئيس بأن انتخابه مرة أخرى شيء يشبه إعادة العالم إلى سابق عهده قبل الضربة. انهيار في الحس الأمني قاد مليارات الاستثمارات للخروج إلى اوروبا مما قفز باليورو إلى مقدمة العملات تاركاً الدولار يلهث خلفه مكبلاً بأسوأ انخفاض يواجهه منذ حقبة الكساد العظيم في الثلاثينات. أما إسرائيل فقد كانت في أفضل أوضاعها فهي مسيطرة على كل شيء ابتداءً من البيت الأبيض وليس انتهاءً بمقر السلطة الفلسطينية . ثم إن اسرائيل كائن متطفل يعيش على المخلوق الأميركي ويستمد منه القوة والمال. فكيف يتسبب في هذه الكارثة التي تمثل بداية الإنهيار الإمبراطوري للولايات المتحدة الأميريكية .. وكيف تتسبب في هذا البعث البركاني للفكر الجهادي الذي عم الدول الإسلامية وجاء بالأحزاب الإسلامية إلى السلطة حتى في أكثر الدول الإسلامية علمانية .. ” يالها من مفارقة”.. .

هذه الضربة المباركة صنفت العالم إلى فسطاطين واضحين .. وتركت الخيار للجميع للانضمام إلى أي معسكر يجد هواه معه . وهي أيضاً لم تزح الستار فقط ، بل أزالت المسرح ليرى الجميع ما كان يخطط له خلف الكواليس وكيف كانت تدار الصفقات بين السادة والعبيد. ثم أنها بأخذها لزمام المبادرة قد جعلت الأميركان يبدأون في تنفيذ مخططاتهم التي لم تتكامل لها أسباب النجاح بعد ، فمنيت تلك المخططات بفشل فاضحٍ نراه في افغانستان التي لا زالت طالبان تشكل فيها قوة يحسب لها ألف حساب وتسيطر على أجزاء لا تستطيع أميركا ولا كرازيها أن يقتربوا منها .. كما نراها في العراق وقد استحال حلم النفط العراقي الرخيص إلى كابوس النجاة بالحياة .. وأمسى جنود أميركا يتفرقون إلى افعانستان والعراق.. لتجمعهم التوابيت على حاملات الطائرات التي اصبحت أشبه بثلاجات موتىً عائمة.

ضربة الثلاثاء الأصبح كان يجب أن تكون في هذا الوقت بالذات .. في الوقت الذي ظن الجميع بأن الجهاد لا يوجد إلا في قصص الصحابة وأخبار التابعين .. في الوقت الذي أصبح الحديث عن صلاح الدين ومحمد الفاتح أشبه بالكلام عن السندباد .. في الوقت الذي أصبح يخرج من أفواه العلماء كقصص الزير و أبي زيد الهلالي.. في الوقت الذي أصبحت فيه موالاة الكفار “حضارة “.. وتسليم المقدسات “تعايشاً سلمياً “.. و إعانة الكافر على المسلم ” ضرورات سياسية ” .
في الوقت الذي مُيّعت فيه المفاهيم ودُجّنت فيه الشعوب وأصبح فيه العالم موظفاً “يراعي أكل عيشه”. في الوقت الذي أصبح فيه الفساد وضعاً طبيعياً .. والذل شيئاً عادياً .. والعمالة فخراً .. والتبعية موضع إجلال … في زمن الإستثناءات كان لا بد أن تتسلم القيادة ” القاعدة”.

ابن رشد

Archived By: Crazy SEO .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نحو الإنفراد بأمريكا .. أسامه يهادن أوروبا